فصل: تفسير الآيات (66- 71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (55):

{قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)}
قوله تعالى: {قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ} أي بما لا خلف فيه، وأن الولد لا بد منه. {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ} أي من الآيسين من الولد، وكان قد أيس من الولد لفرط الكبر. وقراءة العامة {مِنَ الْقانِطِينَ} بالألف. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب {من القنطين} بلا ألف.
وروى عن أبى عمرو. وهو مقصور من {الْقانِطِينَ}. ويجوز أن يكون من لغة من قال: قنط يقنط، مثل حذر يحذر. وفتح النون وكسرها من {يَقْنَطُ} لغتان قرئ بهما. وحكى فيه {يقنط} بالضم. ولم يأت فيه {قنط يقنط} ومن فتح النون في الماضي والمستقبل فإنه جمع بين اللغتين، فأخذ في الماضي بلغة من قال: قنط يقنط، وفى المستقبل بلغة من قال: قنط يقنط، ذكره المهدوي.

.تفسير الآية رقم (56):

{قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)}
أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه لا أنه قنط من رحمة الله تعالى.

.تفسير الآيات (57- 60):

{قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)}
فيه مسألتان: الأولى: لما علم أنهم ملائكة- إذ أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد- قال: فما خطبكم؟ والخطب الامر الخطير. أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به. {قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} أي مشركين ضالين. وفى الكلام إضمار، أي أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم. {إِلَّا آلَ لُوطٍ} أتباعه واهل دينه. {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} وقرأ حمزة والكسائي {لمنجوهم} بالتخفيف من أنجى. الباقون: بالتشديد من نجى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. والتنجية والإنجاء التخليص. {إِلَّا امْرَأَتَهُ} استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك. وقد تقدمت قصة قوم لوط في الأعراف وسورة هود بما فيه كفاية. {قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ} أي قضينا وكتبنا إنها لمن الباقين في العذاب. والغابر: الباقي. قال:
لا تكسع الشول بأغبارها ** إنك لا تدري من الناتج

الأغبار بقايا اللبن. وقرأ أبو بكر والمفضل {قدرنا} بالتخفيف هنا وفى النمل، وشدد الباقون. الهروي: يقال قدر وقدر، بمعنى.
الثانية: لا خلاف بين أهل اللسان وغيرهم أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفى، فإذا قال رجل: له على عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما، ثبت الإقرار بسبعة، لان الدرهم مستثنى من الاربعة، وهو مثبت لأنه مستثنى من منفي، وكانت الاربعة منفية لأنها مستثناة من موجب وهو العشرة، فعاد الدرهم إلى الستة فصارت سبعة. وكذلك لو قال: على خمسة دراهم إلا درهما إلا ثلثيه، كان عليه أربعة دراهم وثلث. وكذلك إذا قال: لفلان على عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة، كان الاستثناء الثاني راجعا إلى ما قبله، والثالث إلى الثاني فيكون عليه درهمان، لان العشرة إثبات والثمانية إثبات فيكون مجموعها ثمانية عشر. والتسعة نفى والسبعة نفى فيكون ستة عشر تسقط من ثمانية عشر ويبقى درهمان، وهو القدر الواجب بالإقرار لا غير. فقوله سبحانه: {إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} فاستثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثم قال: {إِلَّا امْرَأَتَهُ} فاستثناها من آل لوط، فرجعت في التأويل إلى القوم المجرمين كما بينا. وهكذا الحكم في الطلاق، لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة طلقت اثنتين، لان الواحدة رجعت إلى الباقي من المستثنى منه وهى الثلاث. وكذا كل ما جاء من هذا فتفهمه.

.تفسير الآيات (61- 65):

{فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي لا أعرفكم.
وقيل: كانوا شبابا وراي جمالا فخاف عليهم من فتنة قومه، فهذا هو الإنكار. {قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي يشكون أنه نازل بهم، وهو العذاب. {وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق.
وقيل: بالعذاب. {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} أي في هلاكهم. {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} تقدم في هود. {وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ} أي كن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب. {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} نهوا عن الالتفات ليجدوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح.
وقيل: المعنى لا يتخلف. {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قال ابن عباس: يعني الشام. مقاتل: يعني صفد، قرية من قرى لوط. وقد تقدم.
وقيل: إنه مضى إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين، وإنما سمى اليقين لان إبراهيم لما خرجت الرسل شيعهم، فقال لجبريل: من أين يخسف بهم؟ قال: من هاهنا وحد له حدا، وذهب جبريل، فلما جاء لوط. جلس عند إبراهيم وارتقبا ذلك العذاب، فلما اهتزت الأرض قال إبراهيم: {أيقنت بالله} فسمى اليقين.

.تفسير الآيات (66- 71):

{وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)}
قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ} أي أوحينا إلى لوط. {ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} نظيره {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}. {مُصْبِحِينَ} أي عند طلوع الصبح. وقد تقدم. {وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} أي أهل مدينة لوط {يَسْتَبْشِرُونَ} مستبشرين بالاضياف طمعا منهم في ركوب الفاحشة. {إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي} أي أضيافي. {فَلا تَفْضَحُونِ} أي تخجلون. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} يجوز أن يكون من الخزي وهو الذل والهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية وهو الحياء والخجل. وقد تقدم في هود. {قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ} أي عن أن تضيف أحدا لأنا نريد منهم الفاحشة. وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء، عن الحسن. وقد تقدم في الأعراف.
وقيل: أو لم ننهك عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة. {قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ} أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. وقد تقدم بيان هذا في هود.

.تفسير الآية رقم (72):

{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال المفسرون بأجمعهم أقسم الله تعالى ها هنا بحياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفى حيرتهم يترددون. قلت: وهكذا قال القاضي عياض: أجمع أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال. ومعناه وبقائك يا محمد.
وقيل: وحياتك. وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف. قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي: ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه وتعالى بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتى ضعفيه من شرف لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أكرم على الله منه، أو لا ترى أنه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد أرفع. ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكر لغير ضرورة. قلت: ما قاله حسن، فإنه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلاما معترضا في قصة لوط. قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره: ويحتمل أن يقال: يرجع ذلك إلى قوم لوط، أي كانوا في سكرتهم يعمهون.
وقيل: لما وعظ لوط قومه وقال هؤلاء بناتي قالت الملائكة: يا لوط، {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ولا يدرون ما يحل بهم صباحا. فإن قيل: فقد أقسم تعالى بالتين والزيتون وطور سينين، فما في هذا؟ قيل له: ما من شيء أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده، فكذلك نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده. والعمر والعمر بضم العين وفتحها لغتان ومعناهما واحد، إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال. وتقول: عمرك الله، أي أسأل الله تعميرك. و{لَعَمْرُكَ} رفع بالابتداء وخبره محذوف. المعنى لعمرك مما أقسم به.
الثانية: كره كثير من العلماء أن يقول الإنسان لعمري، لان معناه وحياتي. قال إبراهيم النخعي: يكره للرجل أن يقول لعمري، لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال. ونحو هذا قال مالك: إن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك، وليس من كلام أهل الذكران، وإن كان الله سبحانه أقسم به في هذه القصة، فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه، فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره.
وقال ابن حبيب: ينبغي أن يصرف {لَعَمْرُكَ} في الكلام لهذه الآية.
وقال قتادة: هو من كلام العرب. قال ابن العربي: وبه أقول، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه. قلت. القسم ب {لعمرك ولعمري} ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها كثير.
قال النابغة:
لعمري وما عمرى على بهين ** لقد نطقت بطلا على الأقارع

آخر:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ** لكالطول المرخى وثنياه باليد

آخر:
أيها المنكح الثريا سهيلا ** عمرك الله كيف يلتقيان

آخر:
إذا رضيت على بنو قشير ** لعمر الله أعجبني رضاها

وقال بعض أهل المعاني: لا يجوز هذا، لأنه لا يقال لله عمر، وإنما هو تعالى أزلي. ذكره الزهراوي.
الثالثة: قد مضى الكلام فيما يحلف به وما لا يجوز الحلف به في المائدة، وذكرنا هناك قول أحمد بن حنبل فيمن أقسم بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزمته الكفارة. قال ابن خويز منداد: من جوز الحلف بغير الله تعالى مما يجوز تعظيمه بحق من الحقوق فليس يقول إنها يمين تتعلق بها كفارة، إلا أنه من قصد الكذب كان ملوما، لأنه في الباطن مستخف بما وجب عليه تعظيمه. قالوا: وقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} أي وحياتك. وإذا أقسم الله تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وعلى مذهب مالك معنى قوله: {لَعَمْرُكَ} و{التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} {وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ} {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} {وَالشَّمْسِ وَضُحاها} {لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ}. كل هذا معناه: وخالق التين والزيتون، وبرب الكتاب المسطور، وبرب البلد الذي حللت به، وخالق عيشك وحياتك، وحق محمد، فاليمين والقسم حاصل به سبحانه لا بالمخلوق. قال ابن خويز منداد: ومن جوز اليمين بغير الله تعالى تأول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم» وقال: إنما نهى عن الحلف بالآباء الكفار، ألا ترى أنه قال لما حلفوا بآبائهم: «للجبل عند الله أكرم من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية». ومالك حمل الحديث على ظاهره. قال ابن خويز منداد: واستدل أيضا من جوز ذلك بأن أيمان المسلمين جرت منذ عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا أن يحلفوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا حاكم أحدهم صاحبه قال: احلف لي بحق ما حواه هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك بالحرم والمشاعر العظام، والركن والمقام والمحراب وما يتلى فيه.

.تفسير الآيات (73- 74):

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)}
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} نصب على الحال، أي وقت شروق الشمس. يقال: أشرقت الشمس أي أضاءت، وشرقت إذا طلعت.
وقيل: هما لغتان بمعنى. وأشرق القوم أي دخلوا في وقت شروق الشمس. مثل أصبحوا وأمسوا، وهو المراد في الآية.
وقيل: أراد شروق الفجر.
وقيل: أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس، فكان تمام الهلاك عند ذلك. والله أعلم. و{الصَّيْحَةُ} العذاب. وتقدم ذكر {سجيل}.

.تفسير الآية رقم (75):

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} روى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبى سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «للمتفرسين» وهو قول مجاهد.
وروى أبو عيسى الترمذي عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»- ثم قرأ- {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}. قال: هذا حديث غريب.
وقال مقاتل وابن زيد: للمتوسمين للمتفكرين. الضحاك: للنظارين. قال الشاعر:
أوكلما وردت عكاظ قبيلة ** بعثوا إلى عريفهم يتوسموا

وقال قتادة: للمعتبرين، قال زهير:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر ** أنيق لعين الناظر المتوسم

وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، والمعنى متقارب.
وروى الترمذي الحكيم من حديث ثابت عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن لله عز وجل عبادا يعرفون الناس بالتوسم». قال العلماء: التوسم تفعل من الوسم، وهى العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها. يقال: توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسم ذلك فيه، ومنه قول عبد الله بن رواحة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إنى توسمت فيك الخير أعرفه ** والله يعلم أنى ثابت البصر

آخر:
توسمته لما رأيت مهابة ** عليه وقلت المرء من آل هاشم

واتسم الرجل إذا جعل لنفسه علامة يعرف بها. وتوسم الرجل طلب كلا الوسمي. وأنشد:
وأصبحن كالدوم النواعم غدوة ** على وجهة من ظاعن متوسم

وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك. واصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره، وذاك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر. زاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا. روى نهشل عن ابن عباس {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: لأهل الصلاح والخير. وزعمت الصوفية أنها كرامة.
وقيل: بل هي استدلال بالعلامات، ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر. قال الحسن: المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار، فهذا من الدلائل الظاهرة. ومثله قول ابن عباس: ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه.
وروى عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارا، وقال الآخر: بل حدادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال: كنت نجارا وأنا اليوم حداد.
وروى عن جندب بن عبد الله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال: من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به. فقلنا له: كأنك عرضت بهذا الرجل، فقال: إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا، فكان رأس الحرورية، واسمه مرداس.
وروى عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال: هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث، فكان من أمره من القدر ما كان، حتى هجره عامة إخوانه.
وقال لأيوب: هذا سيد فتيان أهل البصرة، ولم يستثن.
وروى عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه: إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك، وكان كذلك.
وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه قوم من مذحج فيهم الأشتر، فصعد فيه النظر وصوبه وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث. فقال: ما له قاتله الله! إنى لأرى للمسلمين منه. يوما عصيبا، فكان منه في الفتنة ما كان.
وروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن أنس بن مالك دخل عليه، وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه قال عثمان: يدخل أحدكم على وفى عينيه أثر الزنى فقال له أنس: أو حيا بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق. ومثله كثير عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
الثانية: قال القاضي أبو بكر بن العربي: إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس. وقد كان قاضى القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريق إياس ابن معاوية أيام كان قاضيا، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءا في الرد عليه، كتبه لي بخطه وأعطانيه، وذلك صحيح، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها.